لا ملل بالحديث عن الشهداء، ومن عبق ذكراهم تنهمر الكلمات، يترطب اللسان بذكرهم وبالحديث عن مشروعهم المتوج تحت عنوان "فلسطين"، تطاردنا الأفكار، عما سنكتب؟ وما نقول فيهم؟ أنكتب عن حياتهم؟ أنكتب عن فكرهم، أنكتب عن قصص جملوها بفعلهم، أليس من حقهم علينا أن نخبرهم بأنهم ليسوا بشر مثلنا، وأنهم من عالم آخر سقطوا فجأة على هذه الأرض من أساطير والحكايات الغابرة.
ربما علينا فعلا أن نتناول قصصهم، كي نتقمص بعضا منها، ونرتوي من فكرهم لعلنا ننجو من غباش الواقع، هم وطننا وهم مشروعنا وهم فلسطين كل فلسطين.
"خروجي من هنا هروب" إلى أن ارتقى شهيدا، يعود بنا الشهيد رياض خليفة في هذا القرار، إلى معركة جنين، إحدى المعارك الفاصلة بين تمام الحق وتمام الباطل، كان المفكر الإسلامي الفلسطيني والأمين على دماء الشهداء د. رمضان عبد الله شلح، يتابع حشد جيش الاحتلال ودباباته وطائراته على مداخل المخيم، وخوفا على أبنائه والشباب المقاوم هناك، تواصل هاتفيا مع جنرال المعركة الشهيد محمود طوالبة، "يا محمود انسحب إن المعركة كر وفر"، فرد عليه محمود قائلا:(المعركة عندي كر ما فيها فر، أنا بدي افر من اليهودي اللي انا كنت اوديله ناس يفجروا حالهم فيه؟!)، صمد المخيم وواجه، فر الجيش مرة وفر المقاومين مرة، إلى أنتهت المعركة بارتقاء الجنرال وقادة شهداء عظام.
يذكرني هذين الموقفين في آبيات شعر للشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي، وكأنه يوصف كل حدث وكل عملية وكل معركة يرفض فيها المقاوم الإنسحاب: فيقول:-
لو صادف الجمعُ الجيشَ يقصده -- فإنه نحو الجيش يندفعُ
فيرجع الجند خطوتين فقط -- ولكن القصد أنهم رجعوا
أرضٌ أُعيدت ولو لثانيةٍ -- والقوم عزلٌ والجيش مدّرع
يمضي الشهيد رياض خليفة، بين فر وكر في اشتباكات متقطعة، أربكت حسابات الاحتلال في منطقة رام الله، وهو الذي ركب بحر النضال والمقاومة والجهاد، وهو في سن طفولته، فخر عبابه ببندقيته فكانت سفينته وشراعهُ وبوصلته، في بحر لجّي لا ترحم أمواجه أحدا.
إبن السابع عشر، عندما انخرط في صفوف المقاومة، والتصدي لاقتحامات الاحتلال، إبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى، شاب لا يهادن، يواصل ليله مع نهاره بأن يوجع الاحتلال حتى لو بالهجوم على مواقعه ودورياته بالحجارة والزجاجات الحارقة، حتى تمكن الاحتلال من اعتقاله للمرة الأولى عام 1989، سجن بتهمة إلقاء الحجارة مدة 5 شهور، وخرج بعنفوان أكبر، فانضم لخلية عسكرية في سرايا القدس، نفذ من خلالها العديد من العمليات الفدائية ضد قوات الاحتلال والمستوطنين، وتدرب على صناعة العبوات الناسفة، كما اشترك في عملية تفجير خطوط أنابيب المياه الواصلة لمستوطنة "دولب" القريبة من القرية، وشارك في تفجير عبوة ناسفة في جيب عسكري صهيوني في قرية دير بزيع برام الله.
إلا أن اعتقاله الثاني حال بينه وبين الاستمرار في العمل المقاوم مثلما كان يقول: "فالفارس كان قد امتطى صهوة جواد لا يمكن إيقافه"، فوجهت له تهم عسكرية، حكم على أثرها 7 سنوات، ارتوى فكرا وعلما وصلابة على الموقف خلالها، إلى أن أفرج عنه عام 1998.
وما إن اشتعلت الانتفاضة الثانية "انتفاضة الأقصى"، عاد رياض سيرته الأولى، وهو الذي لم يتوقف لوهلة واحدة، حيث قام بتشكيل خلية عسكرية لسرايا القدس، واستطاع تأمين السلاح والتمويل اللازم للنجاح، ونفذت تلك الخلية العديد من الهجمات ونصبت الكمائن لقوات الاحتلال ومستوطنيه موقعة العديد من الخسائر في صفوفها، وكان من بينها العملية البطولية التي نفذت على طريق راس كركر، وأصيب على إثرها مستوطن صهيوني، الأمر الذي جعله مطلوباً ومطارداً لقوات الاحتلال، ولم يمنعه ذلك عن الاستمرار، فقام بتشكيل خلايا عسكرية ودربها على السلاح، فعرف آنذاك بقائد سرايا القدس في منطقة رام الله.
تمكنت قوات الاحتلال من اعتقاله بتاريخ 12-2- 2003م، لكنه من كُوي بنار السجن لسنين، فضل هذه المرة أن يكون رهيناً للموت على أن يبقى مكبلاً بقيد سجّانيه، ما دفعه إلى الاجتهاد وهو في سجن "عوفر" القريب من بيتونيا لتحرير نفسه حيث استطاع رياض مع أسرى آخرين بحفر نفقا تحت الأرض يخترق به جدران السجن.
يقول الأسير المحرر وأحد المشاركين في عملية حفر النفق وصديق الشهيد، أمجد الديك، أن مع بداية لقائه بالشهيد رياض خليفة والشهيد خالد شنايطة، بدأ التفكير بالهروب من السجن، خصوصا أن التهم التي كانت موجهة لنا تفيد بأننا قد نواجه حكم 20 سنة فما فوق وربما المؤبد.
وأشار الديك إلى أنه لم يكن الأمر سهلا، هناك تفتيش يومي وعد صباحي دائم، وأبراج مراقبة تعد أنفاس الأسرى، وجدران تحيطها أسلاك لا يمكن لكائن تجاوزها، مضيفا إلى أننا كنا معتقلين في خيمة واحدة ضمن عشرين أسيرا، ولم تتوفر فيه أي أدوات للحفر، لكن "كان علينا إيجاد الخلاص، وآمنا بأنه إذا توفرت الإرادة فسننجح"
ولفت إلى أنهم لم يطلعوا إلى تجارب سابقة، وأن أدوات الحفر كانت الملاعق، وأن الشيء الذي ساعدهم كثير هي طبيعة الأرض غير الصخرية في تلك المنطقة.
وأضاف أن عملية الحفر استهلكت 17 يوما، وفيها تمكنوا من حفر نفق بطول 15 مترا تقريبا بعيدا عن رقابة السجانين، وكانوا يخفون التراب المستخرج داخل وتحت الأغطية المتوفرة، ولم يكشفهم أحد.
وأوضح أنه في ليلة 22/5/2003، قرر الثلاث الهروب من السجن، وبتوفيق الله، لم يعرف أحد من السجانين إلا وقت العد الصباحي أي بعد 5 ساعات من الهروب وهذا ما مكنا من التخفي.
تمكن الشبان من الاختفاء لسبعة أشهر عاشوا فيها مطاردين، وانتهت حريتهم المؤقتة تلك ليلة 12 ديسمبر/كانون الأول 2003 بعد كشفهم قرب قرية كفر نعمة في اشتباك أدى إلى اغتيال رياض خليفة، واعتقال أمجد الديك، أما ثالثهما خالد شنايطة فاعتقل لاحقا وأفرج عنه بعد سنوات، واستشهد أيضا في اشتباك مسلح أيضا عام 2006 شمال بيت لحم.
ولد الشهيد رياض فخري عارف خليفة بتاريخ 1-12-1970م، في قرية كفر نعمة شمال غرب مدينة رام الله في الضفة الغربية المحتلة، وله ثلاثة أخوة و5 أخوات غير أشقاء، هو أكبرهم من الذكور، وكانت علاقته مميزة بهم ويُبهم حباً جماً.
تلقى الشهيد القائد رياض خليفة تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارس قرية كفر نعمة، وأنهى مرحلة الثانوية العامة مع بداية الانتفاضة الأولى، وحصل في "التوجيهي" على معدل 86% (الفرع الأدبي).
عندما نقرأ سير الشهداء ونسمع الأحاديث عنهم، ندرك بأن الشيء الوحيد الذي يجمعهم هو الحرية والتمرد على الذات والأهواء القاهرة المستبدة، فنجدهم وهبوا حياتهم وراحتهم من أجل الدفاع عن قضايا الإنسانية متجردين من أنانيتهم لتكون نُصرة الإنسان كإنسان هي الغاية، نصرة فلسطين كل فلسطين، نصرة القدس هي البوصلة.
ويصف الأسير المحرر جمعة التايه، صديقه الشهيد رياض، بأنه الشاب الرائع الطيب المتواضع الذي عشق طريق الجهاد والمقاومة والذي جسد ذلك في حياته منذ أن كان عمره سبعة عشر عاما فقد اعتقل وهو يقدم امتحانات التوجيهي لمدة أربع شهور ثم اعتقل سبع سنوات وكنا معاً رفقاء القيد وفي هذه الانتفاضة كان أيضا في مقدمة العمل والجهاد كان حلمه وأمله أن يظل مجاهدا في سبيل الله وكان كذلك حتى نال الشهادة بعد أن نفذ أكبر عملية هروب من سجون الاحتلال هذا باختصار رياض خليفة المجاهد الفذ القائد الشجاع الذي لم يتراجع رغم كل الظروف الصعبة التي مر فيها.
وأضاف التايه، بأن الشهيد "رياض كان يتميز بقوة شخصيته وشجاعته، كنا معاً في كل المحطات حتى قدراً تاريخ استشهاده هو تاريخ ميلادي وبعد استشهاده رأيته مرتين في أحلامي حي ويكلمني ويلبس لباس أهل الجنة ويقول لي كما ترى أنا حيٌ لم أمت.
وأضاف، رياض بالنسبة لي هو شخصٌ تتجسد فيه كل معاني الإنسانية فهو الإنسان البسيط الخلوق المحترم الذي لاقى في حياته من المآسي والمعاناة والعذبات الكثيرة فكان نموذجاً للإنسان الطيب المضحي الكريم وقد اختاره الله إلى جواره لأن ربه أعلم به ولا نزكيه على الله.